كانت زميلتنا تتهيأ للتقاعد من عملها كمديرة لمدرستنا، فقد بقي لها عام واحد لتكمل الستين من عمرها، وهذا يعني التقاعد الإجباري حسب قوانين بلادنا.
وكانت أتيحت لها عدة فرص قبله للتقاعد المبكر ورفضت ذلك بشدة لأنها تتخوف من التقاعد والبقاء في المنزل بعد أن إعتادت على الإنتظام في برنامج يومي مكثف يبدأ منذ الصباح.
في ذلك اليوم حدثتنا عن زيارة الأمس التي جمعتها بصاحباتها اللواتي سبقنها إلى التقاعد، وأظهرت لنا تخوفها مما رأته وسمعته هناك فقالت:
ـ لقد كبِرن بسرعة، وسارعت نحوهن ملامح الشيخوخة التي لم أكن لألمحها وهن معي وبجانبي في المدرسة، وكانت الشكوى.. وأحاديث الأطباء.. والمرض.. والتحاليل.. والفحوصات.. هي التي تسيطر على الجلسة، لقد قلت لهن أن أيَّاً منهن لم تشجعني على التقاعد ولم تترك أيَّاً من قصصهن فرصة لي لأندم أو أتحسر على سنوات العمل والجد، ولكنني مضطرة في العام القادم للتقاعد فقد قاربت الستين.
لقد بدا الأمر محزنا، وكنت أراها كمن يفتح لنفسه بابا من أبواب الشقاء، وكنت قبلها أعد الساعات والأيام للتقاعد عندما تحين أول فرصة.
وكان ما أخبرتنا به زميلتنا يحصل مع الكثيرات بعد التقاعد.. أو الإستقالة.. ومع العودة للمنزل، فنحن نجد أن الغالبية تبدأ بالذبول وتنتابها العلل الجسدية والنفسية، وتبدأ بمرافقة الشكوى ومصادقتها.
[] ما هو مصدر تلك العلة؟
إن للتقاعد من العمل والعودة إلى المنزل مزايا رائعة ومكاسب حقيقية لا تقدر، وهي تكمن في الفراغ والكفاية المادية التي يحققها الراتب التقاعدي، ولكن المشكلة تبقى في شخصية تلك السيدة التي برمجت نفسها على الإهتمام ببيتها وعائلتها وعملها فقط، ولم تفكر في نفسها قط، وأقصد أهدافها الخاصة والتي لا تتعلق بالأولاد أو المال أو غيره بل في حياتها الباقية وحياتها بعد الموت، ولا تقتصر هذه المشكلة على النساء بالتأكيد، فأغلبنا يخطط لأهداف يحصرها في الحصول على عمل مرموق ومال وفير وعائلة وأولاد، وقد يخطط لمستقبل أولاده فيؤمن لهم ما يحتاجونه، ويهتم بهم وبدراستهم ويطمئن عليهم في بيوتهم وتنتهي هنا الحكاية.
فما الواجب إذن؟
= بداية علينا أن نحب أنفسنا بما يكفي لنفكر فيها جيدا..
= وعلينا أن نخطط لما بعد رحيلنا عن هذا العالم أولا، فهناك حياتنا الحقيقية، وهي الحياة الدائمة والتي نقرر نحن سعادتنا أو شقاءنا فيها.
= وأن نخطط لشيخوختنا ونقرر منذ الآن كيف سنقضي أوقاتنا فيها:
* فنبدأ بمرافقة كتاب الله ونجعل حفظه وفهمه من أولوياتنا
* وأن نمهد لعلاقة عذبة لطيفة بيننا وبين الحروف، فنقتني الكتب ونلتهم الحروف بحب.
* وليتنا نجرب التدوين وكتابة المذكرات لعل الأجيال تحظى منا بتجارب نافعة مسجلة وموثقة بأيدي أصحابها وصاحباتها.
* وأخيرا علينا كسيدات أن لا نهمل مواهبنا مطلقا بل نعيش معها كل فترات حياتنا وننميها ونطورها ونعلم بناتنا العناية بمواهبهن أيضا ومدارات هذه الجوهرة النفيسة، فمن يدري ربما تكون مجال عمل راق لنا عندما نصل لعمر التقاعد لو كنا موظفات، وعندما يغادرنا أولادنا إلى بيوتهم بعد أن يكبروا لو كنا ربات بيوت.
وإني لأثق حينها بأن ملامح وآلام الشيخوخة لن تجرؤ على مهاجمتنا كما لو كنا ننتظرها ونتهيأ لها.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.